في عالم المعرفة الرقمية الذي تهيمن عليه ويكيبيديا منذ عقدين، قرر الملياردير إيلون ماسك إشعال ثورة فكرية جديدة بإطلاقه موسوعته الإلكترونية "غروكيبيديا" (Grokipedia).
المشروع الذي تطوره شركته xAI للذكاء الاصطناعي، لا يقدّم نفسه كمجرد بديل تقني، بل كـ ثورة فكرية ضد ما يسميه ماسك “التحيز البشري” في ويكيبيديا، ساعيًا لبناء منصة “تعتمد على الحقيقة فقط”.
لكن بين الشعارات الطموحة والواقع، تقف غروكيبيديا اليوم في قلب عاصفة من الاتهامات تتعلق بالانحياز، والانتحال، وحتى بتزييف الحيادية نفسها.
الهدف المعلن: “الحقيقة كاملة ولا شيء سواها”
منذ سنوات، لم يخفِ ماسك امتعاضه من ويكيبيديا، متهمًا إياها بأنها منصة مسيّسة تخضع لنشطاء اليسار.
وفي رده على ذلك، أطلق "غروكيبيديا" بهدف أن تكون “أكبر مصدر للمعرفة وأكثرها دقة في العالم”.
تعتمد المنصة على نموذج الذكاء الاصطناعي “غروك” (Grok) الذي يقوم تلقائيًا بـ:
- توليد المقالات وتحليلها.
- التحقق من صحة المعلومات.
- تصفية التحيزات الفكرية والبشرية.
ويؤكد ماسك أن هذا النهج سيجعل الموسوعة “أكثر حيادًا بعشر مرات من ويكيبيديا”، بفضل الخوارزميات التي — حسب قوله — “لا تعرف الانحياز ولا السياسة”.
نسخة تجريبية مثيرة للجدل: تشابه مريب مع ويكيبيديا
تم إطلاق النسخة التجريبية الأولى Grokipedia v0.1 مع وعد بتحسينات ضخمة في الإصدار القادم، لكن المراجعات الأولية جاءت مخيبة للآمال.
تصميم مطابق تقريبًا: الواجهة وهيكل المقالات متشابهان إلى درجة يصعب معها التفريق بين الموقعين، باستثناء اعتماد “الوضع المظلم” في غروكيبيديا.
محتوى منسوخ: تقارير من Washington Post وThe Verge كشفت أن مئات المقالات، من بينها صفحات مثل “PlayStation 5” و“MacBook Air”، منسوخة حرفيًا من ويكيبيديا، مع إشارة في الأسفل إلى أن المحتوى “مقتبس بموجب رخصة المشاع الإبداعي”.
غياب التفاعل البشري: المستخدمون لا يمكنهم تعديل المقالات مباشرة، بل فقط إرسال “طلبات تصحيح” لتراجعها خوارزمية غروك الذكية، مما جعل النقاد يصفونها بـ“موسوعة بلا روح بشرية”.
غروكيبيديا ضد ويكيبيديا
القضية الأبرز التي تشعل الجدل هي التحيز الأيديولوجي.
فعلى الرغم من وعود ماسك بـ"الحيادية المطلقة"، إلا أن العديد من المقالات في غروكيبيديا تعكس رؤية ماسك الشخصية في قضايا مثيرة للجدل مثل:
- تغير المناخ: تشكك المقالات في “الإجماع العلمي” وتقلل من تأثير النشاط البشري.
- حركة Black Lives Matter: تصف بعض الاحتجاجات بأنها “أعمال شغب منظمة”.
- صفحة ماسك نفسه: تفيض بالإشادة بإنجازاته وتصفه بأنه “رائد الحقيقة والتكنولوجيا”، مستشهدة بمصادر من شركة xAI نفسها.
هذه الانحيازات دفعت لورين ديكنسون من مؤسسة ويكيميديا إلى القول بسخرية:
“حتى غروكيبيديا تحتاج إلى ويكيبيديا لتعيش.”
أما جيمي ويلز، مؤسس ويكيبيديا، فقد علّق قائلًا:
“أنا متحمس لرؤية المنافسة، لكن الذكاء الاصطناعي لم يصل بعد إلى مستوى كتابة موسوعة موثوقة.”
الذكاء الاصطناعي بين الحقيقة والوهم
ماسك يرى في غروكيبيديا أكثر من مجرد مشروع تقني؛ إنها خطوة نحو هدفه الأوسع: جعل الذكاء الاصطناعي يفهم الكون.
ويراهن على أن الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر يمكنه بناء موسوعة دقيقة، أسرع، وأقل تحيزًا من البشر.
لكن النقاد يحذرون من أن الخطر الأكبر هو إعادة تعريف “الحقيقة” وفق خوارزمية واحدة، خصوصًا إذا كانت هذه الخوارزمية تعكس رؤى صانعها أكثر مما تعكس الواقع.
مقارنة الأرقام: الحلم ما زال في بدايته
- عدد المقالات في غروكيبيديا: حوالي 885 ألف.
- عدد الصفحات في ويكيبيديا الإنجليزية: أكثر من 8 ملايين.
- الإصدار الحالي: Grokipedia v0.1 (نسخة أولية).
من الواضح أن المشروع ما زال في بدايته، لكن حجمه الحالي لا يوازي بعد طموحات ماسك بأن يكون “المصدر الأول للمعرفة في العالم”.
من يملك “الحقيقة” في زمن الذكاء الاصطناعي؟
يمثل إطلاق غروكيبيديا أكثر من مجرد صراع بين موقعين؛ إنه تجسيد لصدام حضاري بين المعرفة البشرية الجماعية والذكاء الاصطناعي.
فبينما تبني ويكيبيديا الحقيقة عبر التعاون والمراجعة، تسعى غروكيبيديا إلى هندستها آليًا عبر الخوارزميات.
لكن السؤال الجوهري يبقى مفتوحًا:
هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون محايدًا حقًا؟ أم أنه سيبقى انعكاسًا لعقل من برمجه؟
تبدو غروكيبيديا في نظر البعض محاولة جريئة لإعادة تعريف طريقة إنتاج المعرفة، وفي نظر آخرين مرآة رقمية لانحيازات ماسك.
وبينما يَعِد المشروع بثورة في الحياد والمصداقية، فإن بدايته المليئة بالنسخ والانحياز تشير إلى أن الحقيقة ما زالت في طور البرمجة.
